كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: ظاهر هذا أنّ شرابنا ليس إلا من المطر؟ أجيب: بأنه تعالى لم ينف أن يشرب من غيره وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر سكن هناك بدليل قوله في سورة المؤمنون: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} [المؤمنون].
{ومنه} أي: من الماء {شجر} أي: ينبت بسببه والشجر هنا كل نبات من الأرض حتى الكلأ وفي الحديث: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ. فإن قيل: قال المفسرون: في قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} الرحمن.
المراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق؟
أجيب: بأن عطف الجنس على النوع وبالضدّ مشهور وأيضًا فلفظ الشجر يشعر بالاختلاط يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرياح إذا اختلطت وقال تعالى: {حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء] ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ. فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه ويصح أن يكون المراد بالشجر هنا ما له ساق لأنّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وحينئذٍ فإطلاق الشجر على الكلأ مجاز. {فيه} أي: الشجر {تسيمون} أي: ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت. قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره: لأنها تعلم الإرسال في المرعى.
ولما ذكر تعالى الحيوانات تفصيلًا وإجمالًا ذكر الثمار تفصيلًا وإجمالًا بقوله تعالى: {ينبت} أي: الله {لكم به} أي: بذلك الماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} فبدأ بذكر الزرع وهو الحبّ الذي يقتات به كالحنطة والشعير والأرز لأن به قوام البدن بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن وبارك فيه وثلث بذكر النخيل لأنّ ثمرها غذاء وفاكهة وختم بذكر الأعناب لأنه شبيه النخيل في المنفعة من التفكه والتغذية ثم ذكر تعالى سائر الثمار إجمالًا لينبه بذلك على عظيم قدرته وجزيل نعمته على عباده لأنّ الحبة الواحدةتقع في الطين فإذا مضى عليها مقدار معين من الوقت نفذ في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنفتح الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم تخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إنّ تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإنّ قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إنّ في ذلك لآية} بينة على أنّ فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده وإنما تحصل معرفة ذلك {لقوم يتفكرون} فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته فيؤمنون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى: {وسخر لكم} أي: أيها الناس لإصلاح أحوالكم {الليل} للسكنى {والنهار} للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال: {والشمس} أي: لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال: {والقمر} لأمور علقها به {والنجوم} أي: الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى: {مسخرات} أي: بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها {بأمره} أي: بإرادته سببًا لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسبابًا غيرها أو أغنى عن الأسباب، وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي {الشمس} و{القمر} و{النجوم} و{مسخرات} على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الإثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفًا على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال، ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله: {إنّ في ذلك} أي: التسخير العظيم {لآيات} أي: دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فيعلمون أنّ جميع الخلق تحت قدره وقدرته وتسخيره لما أراده منهم.
وقوله تعالى: {وما ذرأ} أي: خلق {لكم في الأرض} عطف على الليل، أي: وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات، وقيل: إنه في موضع نصب بفعل محذوف، أي: وخلق هكذا قدّره أبو البقاء وكأنه استبعد تسلط سخر على ذلك فقدّر فعلًا لائقًا، وقوله تعالى: {مختلفًا} حل منه، وقوله تعالى: {ألوانه} أي: في الخلقة والهيئة والكيفية فاعل به {إنّ في ذلك لآية لقوم يذّكّرون} أي: يتعظون. تنبيه: ختم تعالى الآية الأولى بالتفكر لأنّ ما فيها يحتاج إلى تأمّل ونظر، وختم الثانية بالعقل لأنّ مدار ما تقدّم عليه وختم الثالثة بالتذكر لأنه نتيجة ما تقدّم وجمع الآيات في الثانية دون الأولى والثالثة لأن ما نيط بها أكثر ولذلك ذكر معها العقل، ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإله أولًا بأجرام السموات والأرض وثانيًا ببدن الإنسان وثالثًا بعجائب خلقة الحيوان ورابعًا بعجائب النبات ذكر خامسًا عجائب العناصر وبدأ بالاستدلال بعنصر الماء بقوله تعالى:
وهو أي: لا غيره، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها {الذي سخر البحر} أي: ذلله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكوّن الجواهر وغير ذلك قال علماء الهيئة: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء فذاك هو البحر المحيط وجعل في هذا الربع المسكون سبعة أبحر قال تعالى: {والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر} [لقمان] والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار فمن تسخيرها للخلق ما مر ومنه جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها بالركوب وبالغوص وبغير ذلك فمنافع البحار كثيرة وذكر سبحانه وتعالى منها هنا ثلاثة منافع الأولى قوله تعالى: {لتأكلوا منه} أي: بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك. {لحمًا طريًا} لا تجد أنعم منه ولا ألين وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذبًا ففي ذلك دلالة على كمال قدرته تعالى وذلك أن السمك لو كان كله مالحًا لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح اللحم الطري في غاية العذوبة علم أنه يخلق الله وقدرته لا بحسب الطبع وعلم بذلك أنّ الله تعالى قادر على إخراج الضدّ من الضدّ. المنفعة الثانية: قوله تعالى: {وتستخرجوا منه} أي: بجهدكم في الغوص وما يتبعه {حلية} أي: اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن].
{تلبسونها} أي: نساؤكم وهنّ بعضكم فكأن اللابس أنتم ولأنّ زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة: قوله تعالى: {وترى الفلك} أي: السفن {مواخر} أي: تمخر الماء، أي: تشقه بجريها {فيه} أي: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر بريح واحدة، وقال مجاهد: تمخر الريح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت، وقال الحسن: مواخر يعني مملوءة متاعًا، وقوله تعالى: {ولتبتغوا} أي: لتطلبوا عطف على تأكلوا وما بينهما إعتراض، وقيل: عطف على محذوف تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا {من فضله} أي: من سعة رزقه بركوبها للتجارة وللوصول إلى البلدن الشاسعة {ولعلكم تشكرون} الله على هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره.
ثم إنه تعالى ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض بقوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي} أي: جبالًا ثوابت {أن تميد} أي: كراهة أن تميل وتضطرب {بكم} وقيل: لئلا تميل بكم والأوّل قدره البصريون والثاني قدّره الكوفيون، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء] روي أن الله تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى: {وأنهارًا} عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى: {وجعل فيها رواسي من فوقها} [فصلت] وقال تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} [طه] وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. {و} جعل لكم فيها {سبلًا} أي: طرقًا مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان {لعلكم تهتدون} أي: بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون.
{و} جعل لكم فيها {علامات} أي: من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم، ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها برًا وبحرًا ليلًا ونهارًا نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى: {وبالنجم} أي: الجنس {هم} أي: أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. {يهتدون} وقدّم الجارّ تنبيهًا على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل: المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي، وقيل: الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء.
{أفمن يخلق} أي: هذه الأشياء الموجودة وغيرها {كمن لا يخلق} شيئًا من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى. فإن قيل: ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهًا بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟
أجيب: بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهًا بها فانكر عليهم ذلك بقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق}. فإن قيل: من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحًا لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضًا بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟
أجيب: بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} [النحل] وإلى قول الشاعر:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ** فقلت ومثلي بالبكاء جدير

أسرب القطا هل من يعير جناحه ** لعلي إلى من قد هويت أطير

وكل قطاة لا تعير جناحها ** تعيش بذل والجناح قصير

فأوقع من على سرب لما عامله معاملة العقلاء، وقيل: للمشاكلة بينه وبين من يخلق، وقيل: المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده كقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها} [الأعراف] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف تصح لهم العبادة إلا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا، ولما كان هذا القدر ظاهرًا غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى تدقيق الفكر والنظر بل مجرّد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل. ختم تعالى ذلك بقوله تعالى: {أفلا تذكرون} بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه فتؤمنون. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه لأنه تعالى ميز نفسه عن الأشياء التي يعبدونها بصفة الخالقية لأنّ الغرض من قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} بيان تميزه عن هذه الأشياء بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والعبودية لكونه تعالى خالقًا وهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقًا لشيء لوجب كونه إلهًا معبودًا، ولما كان ذلك باطلًا علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد، ولما كانت المقدورات لا تحصى وأكثرها نعم على العباد مذكرة لهم بخالقهم قال ممتنًا عليهم بإحسانه من غير سبب منهم.
{وإن تعدّوا} كلكم {نعمت الله} أي: إنعام الملك الأعظم الذي لا رب غيره عليكم من صحة البدن وعافية الجسم وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم وبطش اليدين ومشى الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليكم وما خلق لكم مما تحتاجون إليه من أمر الدنيا حتى لو رام أحدكم معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عنها وعن معرفتها وحصرها فإن نتبعها يفوت الحصر. {لا تحصوها} أي: لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كثرتها وإعراضكم جملة عن شكرها والعبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات وبالغ في شكر نعم الله تعالى فإنه يكون مقصرًا لأنّ نعم الله كثيرة وأقسامها عظيمة وعقل الخلق قاصر عن الإحاطة بمبادئها فضلًا عن غاياتها لكن الطريق إلى ذلك أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها. {إنّ الله لغفور} أي: لتقصيركم في القيام بشكرها يعني النعمة كما يجب عليكم {رحيم} بكم فوسع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير والمعاصي.
وقوله تعالى: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} فيه وجهان: الأوّل: أنّ الكفار مع كفرهم كانوا ليسرون أشياء وهو ما كانوا يمكرون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلنون، أي: وما يظهرون من أذاه صلى الله عليه وسلم فأخبر الله تعالى بأنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا يخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت، والوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدّمة ذكر في هذه الآية أنّ الإله الذي يستحق العبادة يجب أن يكون عالمًا بكل المعلومات سرها وجهرها وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة. ثم وصف تعالى هذه الأصنام بصفات الأولى مذكورة في قوله تعالى: {والذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: الأصنام وتعتقدون أنها آلهة وقرأ عاصم بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب {لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} أي: يصوّرون من الحجارة وغيرها. فإن قيل: قوله تعالى في الآية المتقدّمة: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} يدلّ على أنّ هذه الأصنام لا تخلق شيئًا وهم يخلقون وهذا هو المعنى المذكور في تلك الآية المذكورة فما فائدة هذا التكرار؟
أجيب: بأنّ فائدته أنّ المعنى المذكور في الآية المتقدّمة أنهم لا يخلقون شيئًا فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون كغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار فكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولًا أنها لا تخلق شيئًا، ثم بيّن ثانيًا أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة كغيرها.
الصفة الثانية قوله تعالى: {أموات} أي: جمادات لا روح لها {غير أحياء} إذ الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت. فإن قيل: علم من قوله: {أموات} أنها غير أحياء فما الفائدة في ذكره؟
أجيب: بأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله تعالى حيوانًا وأجساد الحيوانات التي تبعث بعد موتها وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة وذلك أعرق في موتها، وقيل: ذكر للتأكيد لأنّ الكلام مع الكفار الذي يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغبي فقد يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه الإعلام بكون المخاطب في غاية الغباوة في أنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وما يشعرون} أي: الأصنام {أيان} أي: وقت {يبعثون} أي: وما تعلم هؤلاء الآلهة متي تبعث الأحياء تهكمًا بحالها لأنّ شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حيّ إلا الحيّ القيوم سبحانه وتعالى، وقيل: الضمير راجع للأصنام. قال ابن عباس: إنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وقيل: المراد بقوله تعالى: {والذين تدعون من دون الله} الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله تعالى: إنهم أموات، أي: لابد لهم من الموت غير أحياء، أي: باقية حياتهم وما يشعرون، أي: لا علم لهم بوقت بعثهم، ولما زيف سبحانه وتعالى طريقة عبدة الأصنام وبيّن فساد مذهبهم قال تعالى: {إلهكم} أي: أيها الخلق جميعًا المعبود بحق {إله} أي: متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أوان وكل زمان وكل مكان {واحد} لا يقبل التعدّد الذي هو مثال النقص بوجه من الوجوه لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية. {فالذين} أي: فتسبب عن هذا أنّ الذين {لا يؤمنون بالآخرة} أي: دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة {قلوبهم منكرة} أي: جاحدة للوحدانية {وهم} أي: والحال أنهم بسبب إنكار ذلك {مستكبرون} أي: متكبرون عن الإيمان بها {لا جرم} أي: حقًا {أن الله يعلم} علمًا غيبيًا وشاهديًا {ما يسرون} أي: ما يخفون مطلقًا أو بالنسبة إلى بعض الناس {وما يعلنون} أي: يظهرون فيجاز يهم ذلك، ولما كان في ذلك معنى التهديد علل ذلك بقوله تعالى: {إنه} أي: العالم بالسر والعلن {لا يحب المستكبرين} أي: على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى عدم محبتهم أنه يعاقبهم.